تحويل القبلة وتميز الأمة

1- نبذة مختصرة عن هذا الحدث

كان النبي صلى الله عليه وسلم يصلى إلى قبلة بيت المقدس ، ويحب أن يُصرف إلى الكعبة ، وقال لجبريل " وَدِدْتُ أن َيْصِرف الله وجهى عن قبلة اليهود " فقال : إنما أنا عبد فادع ربك واسأله " فجعل يقلب وجهه فى السماء يرجو ذلك حتى أنزل الله عليه " قد نرى تقلب وجهك فى السماء فلنولينك قبلة ترضاها فول وجهك شطر المسجد الحرام "[ البقرة – 144] وذلك بعد ستة عشر شهرا من مَقْدَمِهِ المدينة قبل وقعة بدر بشهرين [ بن سعد (1/241) وبنحوه البخارى :4486] قال محمد بن سعد : أخبرنا هاشم بن القاسم ، قال : أنبأنا أبو معشر عن محمد بن كعب القرظى قال: ما خالف نبىٌ نبياً قط فى قبلة ، ولا فى سنة إلا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم استقبل بيت المقدس حين قدم المدينة ستة عشر شهراً، ثم قرأ : " شرع لكم من الدين ما وصى به نوحاً والذى أوحينا إليك "[ الشورى- 13][ابن سعد 1/243، وفى سنده ضعف ]

2- الحكمة من تحويل القبلة .

وكان لله فى جعل القبلة إلى بيت المقدس ، ثم تحويلها إلى الكعبة حكم عظيمة .

أ‌- محنة للمسلمين والمشركين واليهود والمنافقين .

فأما المسلمون ، فقالوا : سمعنا وأطعنا وقالوا : "آمنا به كل من عند ربنا "[ آل عمران- 7] وهم الذين هدى الله ولم تكن كبيرة عليهم .

وأما المشركون ، فقالوا: كما رجع إلى قبلتنا يوشك أن يرجع إلى ديننا ، وما رجع إليها إلا أنه الحق .

وأمَّا اليهود ، فقالوا: خالف قبلة الأنبياء قبله ، ولو كان نبياً ، لكان يصلى إلى قبلة الأنبياء .

وأما المنافقون ، فقالوا: ما يدرى محمد أين يتوجه إن كانت الأولى حقاً ، فقد تركها ، وإن كانت الثانية هى الحق ، فقد كان على باطل ، وكثرت أقاويل السفهاء من الناس وكانت كما قال الله تعالى :" وإن كانت لكبيرة إلا على الذين هدى الله"[ البقرة- 143] وكانت محنة من الله امتحن بها عباده ليرى من يتبع الرسول منهم ممن ينقلب على عقبيه .

ب‌- لتحويل القبلة أبعادً كثيرة .

إن لتحويلالقبلة أبعاداً كثيرة منها السياسى ، ومنها العسكرى ، ومنها الدينى البحت ، ومنها التاريخى . فبُعدها السياسى أنها جعلت الجزيرة العربية بؤرة الأحداث ، وبُعدها التاريخي أنها ربطت هذا العالم بالإرث العربى لإبراهيم عليه الصلاة والسلام ، وبعدها العسكرى أنها مهدت لفتح مكة وإنهاء الوضع الشاذ فى المسجد الحرام ، حيث أصبح مركز التوحيد مركزاً لعبادة الأصنام ، وبعدها الدينى أنها ربطت القلب بالحنيفية ، وميَّزت الأمة الإسلامية عن غيرها ، والعبادة فى الإسلام عن العبادة فى بقية الأديان .

3- تحويل القبلة وتميز الأمة وبيان خيريتها .

إذا كنَّا تحدثنا عن الحكمة من تحويل القبلة فإن أهم هذه الدروس بيان وسطية هذه الأمة وتميزها عن باقى الأمم . قال تعالى :"وكذلك جعلناكم أمة وسطاً لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيداً"[ البقرة- 143] يقول ا بن كثير فى تفسيره لهذه الآية : يقول تعالى: إنما حولناكم إلى قبلة إبراهيم عليه السلام ، واخترناها لكم لنجعلكم خيار الأمم لتكونوا يوم القيامة شهداء على الأمم ، لأن الجميع معترف لكم بالفضل ، والوسط ههنا : الخيار والأجود ، كما يقال : قريش أوسط العرب نسباً وداراً أى خيرها ، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم وسطاً فى قومه ، أى أشرفهم نسباً، ومنه ( الصلاة الوسطى) وهى العصر ، ولمَّا جعل الله هذه الأمة وسطاً خصها بأكمل الشرائع ، وأقوم المناهج وأوضح المذاهب كما قال تعالى : " هو اجتباكم وما جعل عليكم فى الدين من حرج ملة أبيكم إبراهيم هو سماكم المسلمين من قبل وفى هذا ليكون الرسول شهيداً عليكم وتكونوا شهداء على الناس "[ 78- الحج ] عن أبى سعيد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " يُدعى نوح يوم القيامة فيقال له هل بلغت ؟ فيقول: نعم ، فيدعى قومه ، فيقال لهم هل بلغكم ؟ فيقولون : ما أتانا من نذير وما أتانا من أحد ، فيُقال لنوح من يشهد لك ؟ فيقول محمد وأمته ، قال : فذلك قوله :" وكذلك جعلناكم أمة وسطاً " قال : والوسط العدل فتدعون فتشهدون له بالبلاغ ثم أشهد عليكم " [ رواه البخارى والترمذى والنسائى ] وعن أبى سعيد الخدرى قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " يجئ النبى يوم القيامة ومعه الرجلان وأكثر من ذلك فيدعى قومه فيقال : هل بلغكم هذا ؟ فيقولون ,لا, فيقال له هل بلغت قومك ؟ فيقول نعم : فيقال من يشهد لك ؟ فيقول : محمد وأمته . فيدعى محمد وأمته : فيقال لهم هل بلغ هذا قومه ؟ فيقولون نعم . فيقال : وما علمكم ؟ فيقولون : جاءنا نبينا فأخبرنا أن الرسل قد بلغوا فذلك قول الله عزوجل " وكذلك جعلناكم أمة وسطاً " قال عدلاً " لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيداً" [ رواه أحمد عن أبى سعيد مرفوعاً] وعن النبى صلى الله عليه وسلم قال : " أنا وأمتى يوم القيامة على كوم مشرفين على الخلائق ما من الناس أحد إلا ودَّ أنه منَّا ، وما من نبى كذبه قومه إلا ونحن نشهد أنه قد بلغ رسالة ربه عزوجل [ رواه بن مردوية عن جابر بن عبد الله ].

4- صفات الأمة الوسط ( الشاهدة على الناس ).

لكي تكون هذه الأمة شاهدة على غيرها ، وتنول هذه الخيرية والمنزلة العظيمة ، فلابد لها من صفات تتصف بها وهذه الصفات هى كما وردت فى القرآن الكريم :

· الربانية :

الأول : الربانية : ربانية المصدر وربانية الوجهة ، فهى أمة أنشأها وحى الله تعالى ، وتعهدتها تعاليمه وأحكامه ، حتى اكتمل لها دينها ، وتمت به نعمة الله عليها ، كما قال الله تعالى : " اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتى ورضيت لكم الإسلام ديناً "[ المائدة- 3] . فالله تعالى هو صانع هذه الأمة . ولهذا نجد القرآن الكريم يقول : " وكذلك جعلناكم أمة وسطاً " [ البقرة 143] فهذا التعبير { جعلناكم } يفيد أن الله جاعل هذه الأمة ومتخذها وصانعها . ومثل ذلك قوله تعالى : " كنتم خير أمة أخرجت للناس" [آل عمران 110] فتعبير { أخرجت } يدل على أن هناك مُخرجاً أخرج الأمة ، فهى لم تظهر اعتباطاً ، ولم تكن نباتاً برياً ينبت وحده دون أن يزرعه زارع ، بل هو نبات مقصود متعَهَّد بالعناية والرعاية . والذى أخرج هذه الأمة وزرعها وهيأها لرسالتها هو الله جل شأنه . فهى أمة مصدرها ربانى ، ووجهتها ربانية كذلك ، لأنها تعيش لله ، ولعبادة الله ، ولتحقيق منهج الله فى أرض الله . فهى من الله وإلى الله ، كما قال تعلى لرسوله : " قل إن صلاتى ونسكى ومحياى ومماتى لله رب العالمين (162) لا شريك له " [ الأنعام – 162 ،163 ].

· الوسطية :

والثانى : الوسطية . . التى تؤهل الأمة للشهادة على الناس ، وتبوئها مكانة الأستاذية للبشرية ، وفيها جاءت الآية الكريمة : " وكذلك جعلناكم أمة وسطاً لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيداً" [البقرة-143] . وهى وسطية شاملة جامعة : وسطية فى الإعتقاد والتصور ، ووسطية فى الشعائر والتعبد ، ووسطية فى الأخلاق والسلوك ، ووسطية فى النظم والتشريع ، ووسطية فى الأفكار والمشاعر . وسطية بين الروحية والمادية . . بين المثالية والواقعية . . بين العقلانية والوجدانية . . بين الفردية والجماعية . . بين الثبات والتطور . إنها الأمة التى تمثل ( الصراط المستقيم ) بين السُّبل المتعرجة والملتوية ، صراط الله الذى له ما فى السماوات وما فى الأرض . صراط الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين ، لا صراط المغضوب عليهم ولا الضالين .

· الدعوة :

والوصف الثالث : الدعوة . فهى أمة دعوة ورسالة ، ليست أمة منكفئة على نفسها تحتكر رسالة الحق والخير والهداية لذاتها ، ولا تعمل على نشرها فى الناس ، بل الدعوة فريضة عليها ، والأمر بالمعروف والنهى عن المنكر مع الإيمان بالله أساس تفضيلها على كل الأمم . كما قال تعالى : " كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله "[ آل عمران – 110] فهى لم ترجح عند الله لسبب مادى أو عنصرى ولكن لأمرها بالمعروف ونهيها عن المنكر وإيمانها بالله . وقبل ذلك بآيات ، قال الله تعالى " ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر وأولئك هم المفلحون" [ آل عمران- 104] ومعناها على أحد التفسيرين : اجعلوا من أنفسكم أمة الدعوة والأمر بالمعروف والنهى عن المنكر ، فبهذا تستحقون أن يٌقصر الفلاح عليكم . و" من " هنا تجريدية لا تبعيضية . كما تقول : ليكن لى منك الصديق الوفى ، أى : كن أنت الصديق الوفى . وعلى التفسير الآخر : هيئوا منكم طائفة متماسكة بحيث تصح أن تُسمى( أمة ) قادرة على الدعوة والأمر بالمعروف والنهى عن المنكر ، لتسقط فرض الكفاية عنكم ، وتكونوا أنتم عوناً لها . إن رسالة الإسلام رسالة عالمية ، لكل الأجناس ، ولكل الألوان ، ولكل الطبقات ، ولكل الشعوب كما قال تعالى " وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين"[الأنبياء- 107] " تبارك الذى نزل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيرا"[ الفرقان – 1] " قل يا أيها الناس إنى رسول الله إليكم جميعاً"[ الأعراف- 158] وعلى الأمة أن تدعو الناس جميعاً إلى الإسلام بألسنتهم حتى يتبين الحق لهم ، وتقيم الحجة عليهم ، وأن تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر ، كى لا تُلعن كما لُعن الذين من قبلها حين فرطوا فى هذا الواجب : " لعن الذين كفروا من بنى اسرائيل على لسان داود وعيسى بن مريم ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون (78) كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه لبئس ما كانوا يفعلون (79)[المائدة] .

· الوحدة :

والوصف الرابع : الوحدة : فالأمة التى يريدها الإسلام أمة واحدة ، وإن تكونت من عروق وألوان وطبقات ، فقد صهرها الإسلام جميعا فى بوتقته ، وأذاب الفوارق بينها ، وربطها بالعروة الوثقى لا انفصام لها . يقول تعالى : "إن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاعبدوه"[ الأنبياء- 92] ويقول سبحانه :" وإن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاتقون"[المؤمنون-52] . أمة ربها واحد هو الله ، ونبيها واحد هو محمد صلى الله عليه وسلم ، وكتابها واحد وهو القرآن الكريم ، وقبلتها واحدة هى الكعبة (البيت الحرام) ، وشريعتها واحدة هى شريعة الإسلام ، ووطنها واحد هو (دار الإسلام) ، وقيادتها واحد تتمثل فى (خليفة المسلمين) وأمير المؤمنين ، الذى يجسم الوحدة السياسية للأمة .يقول الله تعالى :" واعتصموا بحبل الله حميعاً ولا تفرقوا "[آل عمران-103] وقال أيضاً " إنما المؤمنون إخوة "[الحجرات-10] وقال صلى الله عليه وسلم " المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يسلمه" متفق عليه .

وقال صلى الله عليه وسلم " المسلمون تتكافأ دماؤهم ، يسعى بذمتهم أدناهم ، ويجير عليهم أقصاهم ، وهم يد على من سواهم " رواه أبو داود وابن ماجة . ويحذر الإسلام أبلغ التحذير من تعادى أبناء الأمة الواحدة إلى حد أن يحارب بعضها بعضاً ، كما كانت قبائل الجاهلية تفعل .

يقول صلى الله عليه وسلم " لا ترجعوا بعدى كفاراً يضرب بعضكم رقاب بعض " متفق عليه .

وقال صلى الله عليه وسلم " سباب المسلم فسوق ، وقتاله كفر" متفق عليه .

المراجع :

1- القرآن الكريم

2- مختصرا بن كثير ش/ محمد على الصابونى

3- تفسير الظلال أ/ سيد قطب

4- زاد المعاد في هدى خير العباد ابن القيم الجوزية

5- فقه السيرة ش/ محمد الغزالى

6- كيف نتعامل مع القرآن العظيم د/ يوسف القرضاوى

7- السيرة النبوية د/ على محمد الصلابى

8- خطب الشيخ / محمد الغزالى (1-2)

9- ماذا قدم المسلمون للعالم ؟ د/ راغب السرجانى

10- خواطر الفجر الحاج/ محمد أبو السعود

11- جولة فى رحاب العلماء وأحداث الحياة د/ عمر الأشقر

شكرا

جزاك الله كل خير

بارك الله فيك

جزاك الله خيرا