ما حكم الكذب ؟ نص الإجابة بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب
العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين وبعد : -
الإسلام يحذر من الكذب بوجه عام , ويعده من خصال الكفر أو النفاق .. ففي
القرآن نقرأ : { إنما يفتري الكذب الذين لا يؤمنون بآيات الله وأولئك هم
الكاذبون } . - وفي السنة : ( آية المنافق ثلاث : إذا حدث كذب , وإذا وعد
أخلف , وإذا عاهد غدر ) . [ أخرجه الشيخان ] وفي روية لمسلم : ( وإن صلى
وصام وزعم أنه مسلم ) . - وفي حديث آخر للشيخين : ( أربع من كن فيه كان
منافقاً خالصاً , ومن كانت فيه خصلة منهن كانت فيه خصلة من النفاق حتى
يدعها : إذا أؤتمن خان , وإذا حدث كذب , وإذا عاهد غدر , وإذا خاصم فجر ) .
- وهذا كله يدلنا على مدى نفور الإسلام من الكذب , وتربية أبنائه على
التطهر منه , سواء ظهر من ورائه ضرر مباشر أم لا … يكفي أنه كذب , وإخبار
بغير الواقع , وتشبه بأهل النفاق . - وليس من اللازم ألا يلتزم الناس الصدق
إلا إذا جر عليه منفعة , ولا يتجنبوا الكذب إلا إذا جلب عليهم مضرة ,
فالتمسك بالفضيلة واجب وإن كان وراءها بعض الضرر الفردي المباشر واتقاء
الرذيلة واجب وإن درت بعض النفع الآني المحدود , وإن كان الإنسان يكره أن
يكذب عليه غيره , ويخدعه باعتذارات زائفة وتعليلات باطلة , فواجبه أن يكره
من نفسه الكذب على الآخرين , على قاعدة : " عامل الناس بما تحب أن يعاملوك
به " . - على أن من أكبر وجوه الضرر في الكذب أن يعتاده اللسان , فلا
يستطيع التحرر منه , وهذا هو المشاهد الملموس , الذي عبر عنه الشاعر قديماً
فقال : عوِّد لسانك قول الصدق وارض به إن اللسان لما عوَّدت معتاد - ورسول
الله صلى الله عليه وسلم يحذرنا من ولوج هذا الباب الذي ينتهي بصاحبه بعد
اعتياد دخوله إلى أن يكتب عند الله من الكذابين فيقول : ( عليكم بالصدق فإن
الصدق يهدي إلى البر , والبر يهدي إلى الجنة , وما يزال الرجل يصدق ويتحرى
الصدق حتى يكتب عند الله صديقاً , وإياكم والكذب , فإن الكذب يهدي إلى
الفجور , والفجور يهدي إلى النار , وما يزال الرجل يكذب ويتحرى الكذب , حتى
يكتب عند الله كذاباً ) . [ متفق عليه ] . - ومع هذا فإن من خصائص الإسلام
أنه دين يجمع بين المثالية والواقعية في توازن وتناسق , ولا يكتفي
بالتحليق في أجواء المثاليات المجنحة , دون النزول إلى أرض الواقع الذي
يعيشه الناس , كما فعل بعض فلاسفة الأخلاق المثاليين من أنصار مذهب الواجب
لذاته , مثل الفيلسوف الألماني الكبير " كانت " الذي لم يرخص في الكذب
ونحوه في أي موضع , ولأي سبب ومهما تكن النتيجة . - أما الإسلام فهو منهج
الله تعالى الذي يعلم من طبيعة الحياة , وضرورات الناس فيها , ما يجعله
يرخص في الكذب في مواضع معينة , مراعاة لطبيعة البشر , وتقدير لما ينزل بهم
من ضرورة قاهرة أو حاجة ملحة . - ولم أجد من وضح هذا الجانب , ووفاه حقه
من البحث والشرح مثل الإمام أبي حامد الغزالي – رحمه الله – في موسوعته
الإسلامية " إحياء علوم الدين " ويحسن بي أن أنقل هنا مقتطفات من حديثه
بلفظه , لما فيها من التحقيق والبيان حيث يقول : " اعلم أن الكذب ليس
حراماً لعينه , بل لما فيه من الضرر على المخاطب أو على غيره , فإن أقل
درجاته أن يعتقد المخبر الشيء على خلاف ما هو عليه , فيكون جاهلاً , وقد
يتعلق به ضرر غيره , ورب جهل فيه منفعة ومصلحة , فالكذب محصل لذلك الجهل ,
فيكون مأذوناً فيه , وربما كان واجباً . - قال ميمون ابن مهران : الكذب في
بعض المواطن خير من الصدق , أرأيت لو أن رجلاً سعى خلف إنسان بالسيف ليقتله
, فدخل داراً , فانتهى إليه , فقال : أرأيت فلاناً ؟ ما كنت قائلاً ؟ ألست
تقول لم أره ؟ وما تصدق به وهذا الكذب واجب . - فنقول : الكلام وسيلة إلى
المقاصد , فكل مقصود محمود يمكن التوصل إليه بالصدق والكذب جميعاً , فالكذب
فيه حرام , وإن أمكن التوصل إليه بالكذب دون الصدق فالكذب فيه مباح إن كان
تحصيل ذلك القصد مباحاً , وواجب إن كان المقصود واجباً . - وهما كان لا
يتم مقصود الحرب , أو إصلاح ذات البين , أو استمالة قلب المجني عليه إلا
بالكذب , فالكذب مباح , إلا أنه ينبغي أن يحترز منه ما أمكن , لأنه إذا فتح
باب الكذب على نفسه فيخشى أن يتداعى إلى ما يستغنى عنه , وإلى ما لا يقتصر
على حد الضرورة فيكون الكذب حراماً في الأصل إلا لضرورة . - والذي يدل على
الاستثناء ما روي عن أم كلثوم قالت : " ما سمعت رسول الله صلى الله عليه
وسلم يرخص في شيء من الكذب إلا في ثلاث : الرجل يقول القول يريد به الإصلاح
, والرجل يقول القول في الحرب , والرجل يحدث امرأته والمرأة تحدث زوجها " .
[ أخرجه مسلم ] . - وقالت أيضاً : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (
وليس وليس بكذاب من أصلح بين اثنين فقال خيراً أو نمى خيراً ) . [ أخرجه
الشيخان ] . - وقالت أسماء بنت يزيد : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (
كل الكذب يكتب على ابن آدم , إلا رجل كذب بين مسلمين ليصلح بينهما ) . [
أخرجه أحمد والترمذي ] . - قال : فهذه الثلاث ورد فيها صريح الاستثناء ,
وفي معناها ما عداها إذا ارتبط به مقصود صحيح له أو لغيره . -أما ماله :
فمثل أن يأخذ ظالم ويسأله عن ماله فله أن ينكره , أو يأخذه سلطان , فيسأله
عن فاحشة بينه وبين الله تعالى ارتكبها , فله أن ينكر ذلك فيقول : ما زنيت
وما سرقت , وقال صلى الله عليه وسلم : ( من ارتكب شيئاً من هذه القاذورات
فليستتر بستر الله ) . وذلك أن إظهار الفاحشة فاحشة أخرى , فللرجل أن يحفظ
دمه وماله الذي يؤخذ ظلماً , وعرضه بلسانه , وإن كان كاذباً . وأما عرض
غيره : فبأن يسأله عن سر أخيه فله أن ينكره , وأن يصلح بين اثنين , وأن
يصلح بين الضرات من نسائه , بأن يظهر لكل واحدة أنها أحب إليه , وإن كانت
امرأته لا تطاوعه إلا بعد لا يقدر عليه , فيعدها في الحال تطييباً لقلبها ,
أو يعتذر إلى إنسان وكان لا يطيب قلبه إلا بإنكار ذنب وزيادة تودد فلا بأس
فيه . - ولكن الحد فيه أن الكذب محذور ولو صدق في هذه المواضع تولد منه
محذور , فينبغي أن يقابل أحدهما بالآخر , ويزن بالميزان القسط , فذا علم أن
المحذور الذي يحصل بالصدق أشد وقعاً في الشرع من الكذب , فله الكذب , وإن
كان ذلك المقصود أهون من مقصود الصدق فيجب الصدق وقد يتقابل الأمران بحيث
يتردد فيهما , وعند ذلك الميل إلى الصدق أولى , لأن الكذب يباح للضرورة ,
أو حاجة مهمة , فإن شك في كون الحاجة مهمة , فالأصل التحريم , فيرجع إليه .
- ولأجل غموض إدراك مرات المقاصد , ينبغي أن يحترز الإنسان من الكذب ما
أمكنه , وكذلك مهما كانت الحاجة له , يستحب له أن يترك أغراضه , ويهجر
الكذب , فأما إذا تعلق بغرض غيره , فلا يجوز المسامحة لحق الغير , والإضرار
به , وأكثر كذب الناس إنما هو لحظوظ أنفسهم , ثم هو لزيادات المال والجاه ,
لأمور ليس فواتها محذوراً , حتى إن المرأة لتحكي من زوجها ما تفخر به ,
وتكذب لأمور ليس فواتها محذوراً , وتكذب لأجل مراغمة الضرات ( أو الزميلات )
وذلك حرام . - وقالت أسماء : سمعت امرأة قالت لسول الله صلى الله عليه
وسلم : إن لي ضرة وإني أتكثر من زوجي بما لم بفعل , أضارها بذلك , فهل عليّ
شيء فيه ؟ فقال صلى الله عليه وسلم : ( المتشبع بما لم يعط كلابس ثوبي زور
) . [ أخرجه الشيخان ] " .